تتكثف صور قديمة
وتنفتح عيني wide angle
فتتلقاها من جديد
كحبيبات فضية على سطح ذاكرتي المجعد
أقترب بين الحين والآخر
فتتغير
من الزرقة اللانهائية لألوان قوس قزح
ثم تتوارى
---
كنت قديماً
أتلقاها بحنين مرهف
وأصبغها بالـ sepia tone
حتى تكتسب ذاكرتي أناقة برواز كلاسيكي
مع الاحتفاظ بمسافة مناسبة..
تكفي لعدم التورط
---
لم أدرك – حينها –
أني أختزن كماً مهولاً من اللحظات
استوقفت مداراتها
فأصبحت ذاكرتي ألبوم صور
مدموغ بالحميمية
---
الساعة الثانية بعد منتصف الليل
أجلس على حافة هذا الألبوم
أحرك قدمي في ماءه الرمادي
فتتلون ذاكرتي
وأبدأ في لمس التفاصيل
---
صوره (1)
كان عمري سنتين
وللغرابة فاكره قوي لما كان بيتنا في المهندسين دور واحد
والجنينه اللي حواليه بكراسيها الخوص
وشجرة الجوافه والليمونه
وتكعيبة العنب جنب السور المبني بالطوب الأحمر
والجراج اللي فيه عربيتنا الـ 128 الخضراء
وعم "بطرس" المقاول الصعيدي اللي كان بيكمل البيت علشان يبقى 3 أدوار..
كان طويلاً قوي البنيان كفرعون – أو هكذا كنت أراه - بجلابيه وشنب كثيف مبروم.. عمره ما ابتسم... إلا لما كنت بندهله..."يا عم طُطُس"
صوره (2)
أغنيتين كان ليهم وقع خاص جداً قبل ما أفهم يعني إيه كلام
"عدوية" - لمحمد رشدي.. أسمعها فتصيبني نشوة غير مفهومة، وأبدأ في القفز على الفراش ممسكة بسوره المعدني..
و"الحياه بقى لونها بمبي" – لسعاد حسني.. وده خلاني أفكر، هو أنا ابتديت أحب سعاد من امتى؟؟؟
صوره (3)
"ريتا".. كلبة وولف على بلدي... كان عندها بيت خشب في الجنينه.. كنت باركب على ضهرها حصان.. في عنيها طيبة عجيبة وتفهم أعجب لسني وعبثي بها.. كنت أنا الوحيدة المسموح لها بالاقتراب من صغارها.. أظنها اعتبرتني طفلتها أنا أيضاً.. فلم تؤذني قط... سربوا كل عيالها وسابوا واحد أسود غطيس.. سميته "سِبَنُّوسي".. ولما مات، وهي بطلت تاكل.. خالي سربها هي كمان.. وتذوقتُ الحزن..
صوره (4)
صورة صغيرة لدراجتي الزرقاء، أتذكر يوم اشتريناها من "أبو الجوخ" وطويناها داخل شنطة السيارة وأمضيت الليلة وأنا أتأملها.. كانت كبيرة الحجم بالنسبة لي.. بقيت معي حتى كبرت وتمكنت من قيادتها في شارعنا الهادئ بمهارة ودون السنّادات..
صوره (5)
فريق السباحة بالنادي.. عم "أحمد" المدرب العجوز السمين.. دائما يرتدي نظارة نظر سوداء سميكة.. كنت أغافله وأبتعد.. لم تستهوني فكرة الفريق.. كنت أفضل أن نلعب لعبة أخرى.. نرمي غطيان الكازوزة في البيسين ونغطس نلمها.. واللي يجمع أكتر هوه اللي كسبان.. مرة نطيت في البيسين ودست على غطا واتعورت في كعبي بنفس شكل الغطا المشرشر..
فاكره قوي البرجر بتاع النادي بالكاتشب والمسطرده.. ومعاه قزازة "سبورت كولا" أو "لايف".. "سبورت كولا" من الحاجات اللي معلمة في قلبي.. وفاكرة كمان إن ماما كانت بتحب "تيم" أكتر..
صوره (6)
كانت أمي جميله.. بالـ make up الهادئ وشعرها الأسود الناعم الذي ورثت عنها لونه ولم أرث نعومته.. تأتي يوم الخميس لتأخذني من المدرسة... كانت مدرستي في الزمالك.. كنا نسير نغني في الشارع.. نشتري مجلة "ميكي".. ونعبر النيل بالأوتوبيس النهري.. نغني ونضحك طول رحلتنا إلى البيت.. في تلك الأيام، لم يكن هناك من يستنكر..
صوره (7)
كانت طفولتي في الثمانينات مرتبطه بشيكولاته "كورونا" بشكل أسبوعي، و بسكويت "بيمبو" أو بسكويت البلح أبو ورقة دهبي وعصير "بست" بشكل يومي، وكاكاو "كورونا" تصنعه أمي مثلجاً في الخلاط فقط حين يزورنا أولاد عمي.. تعودت عيني على أشكال الأغلفة أحادية الألوان والخامات لهذه الفترة، ولكن مجلة "بوردا" التي تدمنها أمي كانت تستفزني بأغلفة حلوى من نوع آخر لم أعتاده.. أذكر يوم رأيت شيكولاته "تويكس" لأول مره مجسمة أمامي خارج أوراق المجلة، كان ذلك عند محل صغير للحلويات بالزمالك، طلبت من ماما يوم الخميس واحنا مروحين، فاشتريتلي واحده.. كنت سعيدة جداً ومكلتهاش على طول.. ثم تحول شراء "التويكس" لعادة شهرية... أحوشلها شهر وأشتريها وماكلهاش على طول ولما أفتحها بالراحة جداً علشان الغلاف ميبوظش أبتدي أكلها فتفوته فتفوته واحتفظ بيها أطول وقت ممكن في بقي.. أمتصها في تؤدة ويستمر ده لمدة يومين.. من قريب لقيت علبة في دولابي لسه فيها حوالي 30 غلاف "تويكس".. ماكنتش برميهم..
صوره (8)
يوم الجمعة يوم خاص جداً.. أو كان كذلك في طفولتي.. بيت جدي لأبي القديم ذو الجدران السميكة.. والرائحة المميزة.. كان مكوناً من ثلاثة أدوار.. يسكن جدي الأول منها.. الدور الأعلى كان شقة خالية.. يسكنها الأرانب.. كنت أمضي الساعات أقنعها أني لن أؤذيها حتى تخرج من خلف الكراكيب.. وأرقب الأنف الظاهر منها وهو يتحرك فأصبحت كلمة "أرنب" مرتبطة عندي بأنف وردي يتحرك..
أما عن السطح.. كنت وأولاد عمي نصنع الطيارات الورقية زاهية الألوان بالورق "الأزاز" وجريد الأقفاص.. وكنا أيضاً نصنع ألعاباً بأنفسنا.. بالخشب وغطيان "الكازوزة" وبكرات الخيط الخشبية القديمة التي كانت تمتلكها جدتي ولم تفرط فيها حتى بعد نفاذ الخيط.. أتذكر أيضاً عمتي ولعبة "الجديد" التي لعبها معها كل أطفال العائلة.. كانت تحفظ حبة فول في أحد كفيها ثم تسأل "فين الجديييييييد؟"
أيضاً حكاية "بياع الطواقي" اللي القرود سرقوا طواقيه وهو نايم وكيف تحلقنا حولها في دائرة وهي تحكي وكم أحببنا كثيراً سماع الجزء الأخير حين رمى البياع طاقيته فقلدته القرود.. واسترد طواقيه..
"حرب أطاليا" في الأعياد و"عم علي" بياع اللب والسوداني العجوز ذو الصوت الواهن وهو ينادي "سوداني ولييييييب".. كان طقساً أن نشتري منه رغم أنني لم أحب اللب يوماً ولكنني أحببت قراطيسه الصغيرة وزكائبه السوداء المملوءة بالتسالي.. كان يتسلق الشارع الضيق المائل.. نسمع صوته كالحلم فنتقافز حوله.. فيعطي كل منا قرطاساً ورقياً صغيراً.. منزوع من كراس محاضرات أو كتاب إحصاء..
كان السطح بالنسبة لي صورة توتاله ضبابية عجيبة للقاهرة تتوسطها القلعة ممزوجة بالمقابر القريبة المهجورة.. ويحدها المقطم من اليمين.. كانت المقابر والطرق الترابية المائلة تستهويني.. كان لها رونق ما لم أدرك كنهه وأنا طفلة..
صوره (9)
أنا طفلة وحيدة.. ألعب مع أمي دائماً.. لذا لم أتمكن يوماً من الاحتفاظ بصديق.. فأنا أفضل من هم أكبر مني.. من يهتمون بي ويرعونني.. بلا نديّة..
لذا كنت بلا أصدقاء في المدرسة.. صامتة ساكنة ذات عينان كبيرتان تختزنان التفاصيل.. وضفيرتين.. متفوقة تجلس في دكة بالصف الأخير بجوار "ولد" لا تتبادل معه الأحاديث.. مطلقاً..
صوره (10)
"أم ابراهيم" تأتي إلينا لتنظف المنزل يوم في الأسبوع، كانت سمينة جداً ذات صدر ضخم، صعيدية سمراء بوجه مستطيل ودق أخضر في ذقنها.. وعينان خضراوان عميقتان.. كنت أجلس بجانبها في الصباح.. نشرب شاياً باللبن وبقسماط.. كانت علاقة عائلتي بها علاقة شديدة الحميمية.. كانت تسكن جوار جدتي لأمي في شبرا في زمن فات.. وكانت تنظف بيوت عائلة جدة أمي وخالها.. علاقة شديدة التوغل والاستمرار.. كنت أختفي في صدرها الدافئ الممتلئ فتضحك عالياً.. وتسألني "بَزابيزي قد إيه؟" فأقول لها "قد البطيخة" فتضحك.. وتستمر في سؤالي "ستو بزابيزها قد إيه؟" فأقول لها "قد المنجه" فتسألني "وانت بزابيزك قد إيه؟" فأقول "قد الليمونه".. وترسخت عندي قناعة أن "أم ابراهيم" أكبر من جدتي لذلك السبب وأنني حينما أصل لسن أم ابراهيم سأمتلك ثديين مثل ثدييها.. وأعجبتني الفكرة..
اختفت "ام ابراهيم" فجأة.. لم تعد تأتي.. لم نعرف سبباً لذلك.. ولم نعثر عليها.. قريباً سمعت أنها ماتت.. وسمعت أحاديث عن أن أحد أقاربنا أهانها في بيتنا بخصوص كونها مسيحية.. وأنها لم تحتمل الإهانة..
صوره (11)
كانت أمي تذهب إلى عملها وتتركني مع جدتي.. أجلس معها طوال اليوم في بلكونتها المطلة على الشارع بالدور الأرضي.. كان هذا مكانها المفضل.. تتكلم مع البواب.. وتهش العيال.. وتنادي على الزبال ليأتي ابن الكلب يشيل الزبالة اللي بيصهين عليها باليومين.. هكذا كانت تتمتم.. أتفاعل مع نرفزتها فأبدأ في الصياح مؤيدة لها بلا كلمة مفهومة..
كان لها عالمها الخاص جداً.. ومكانتها الرفيعة في الشارع.. كانت من المؤسسين الأوائل لبيوت الشارع.. أتى الآخرون بعدها فلم تتزحزح مكانتها.. كانت ذات كلمة مسموعة وهيبة بين الجيران والبوابين.. وكانت رغم عصبيتها ذات قلب طيب.. ووجه أبيض طفولي مدور مشدود بلا تجعيدة واحدة.. كانت "ليدي" في شبابها قبل أن تصبح "الحاجة صفية"..
كنت أنا حفيدتها المفضلة.. تهتم بي إهتماماً زائداً وتخاف علي وترعاني في غياب أمي وتتحمل شقاوتي بصدر رحب جداً حتي حين أسقط حللها وأدلق شايها وأبعثر كحكها.. كانت تكتفي بقول "كده؟؟؟"....
صوره (12)
كنا نجتمع على الغذاء سوياً.. أمي وأبي وجدتي وخالتي التي لم تتزوج.. أذكر لقطة مضحكة جداً.. كنت جائعة وأمي تحضر الغذاء.. وأنا مغرمة بالخبز البلدي الطازج.. وخصوصاً وجههه المحمص قليلاً.. أجلس في صمت وأبدأ في أكل وجه رغيف فثانٍ فثالث حتى أصبح الخبز بلا أوجه.. حينها أدركت ما فعلت.. فنثرت الخبز على طاولة الأكل.. وصنعت ورقة كاللافتة في منتصف الطاولة مكتوب عليها "مشروع تقوير الرغيف".. كنت شديدة الصغر وكانت مفاجأة ما كتبت كفيلة بأن تعفيني من غضبهم وتستبدله بالدهشة والضحك..
صوره (13)
لم أحب يوماً أن ألتصق بأبي.. وكنت أرفض تقبيله.. أدركت منذ صغري أنه مختلف ولو أني لم أدرك معنى الاختلاف.. كل ما أذكره أني لم أشعر براحة في الاقتراب المادي منه.. كنت أتعامل معه بشكل عقلاني جداً.. كان يغذيني فنياً وأدبياً.. فيشجعني على الرسم والقراءة والعزف على البيانو.. ويجلس معي بالساعات يدندن ألحاناً وأنا أعزفها سماعي على الـ keyboard الكاسيو الصغير الذي أهداني إياه في عيد ميلادي الأول.. كان أبي يبني داخلي قاعدة معلوماتية عريضة قابلة للتطوير.. بابا كاركتر جداً.. محب للسينما والمزيكا والميكانيكا وأنواع السيارات والسياسة.. والتصوير.. يمتلك صندوقاً من الـ slides وprojector وكان يحلو له كثيراً أن يجمعنا في الأنتريه ويطفئ النور ويجهز شاشة بيضاء على الحائط لنشاهد الصور التي أخذها لنا في المناسبات المختلفة.. كان ذلك بالنسبة لي أمتع من السينما..
أبي كان يعاملني كمشروعه بغض النظر عن كوني أنثى.. علمني الرماية ببندقية رش على سطح منزل جدي.. خلق عشقاً بيني وبين السيارات فلم تستهوني العرائس أبداً وكانت لعبتي المفضلة سيارات matchbox الصغيرة بماركات كثيرة كنت أحفظها عن ظهر قلب..
كان يأخذني معه في كل مكان.. ويشاركني اهتماماته تلك..
صوره (14)
هذا المكان بالذات له طعم خاص، عمل أبي.. مجموعة مبانٍ من دور واحد، كلها لها سقف شديد الارتفاع.. مبنية على الطراز الانجليزي، شبابيك شيش طولية مطلية باللون البني.. مساحات شاسعة ودفايات عتيقة مثبتة في الحوائط.. محاط بحديقة شاسعة كغابة من أشجار التوت والمانجو.. كنت أستمتع بإحساس الاستكشاف والسكون أثناء التجول فيها.. كان النهار ينقضي ولم أكن أشبع أبداً منه.. خاصة تلك الأوقات التي أقضيها وحدي في الجراج.. كان لأبي مكان رائع يترك فيه السيارة.. كوخ خشبي عتيق ذو شباك زجاجي مكسور في الخلفية تلفه خيوط العنكبوت.. ويظهر الشباك جزءاً مهجوراً من الحديقة.. كنت أتأمل في ذلك المكان على وجه التحديد.. كراهب بوذي.
صوره (15)
قال لي بغضب بعد فشلي المتكرر في تذكر الفاتحة أثناء الصلاة: "لو ماصليتيش عدل مش هاتيجي معايا"
قلت له: "ومين قال لك إني عايزه آجي معاك؟"
-----------------------------------------------------------------------
ملحوظة: في ناس هنا نفسي أغوص في ألبوماتهم...